الجمعة، يونيو 26، 2020

لوحة المصائر التائهة (جنازة جديدة لعماد حمدي)


                              لوحة المصائر التائهة        
                          (جنــازة جديدة لعمــاد حــمدي)  
حين تحدثك السلطة بنفسها:                                
 من الوهلة الأولى لقراءة رواية"جنازة جديدة لعماد حمدي"             للروائي وحيد  الطويلة سوف يفاجأ القارئ بسلطة قاهرة     تحدثه وتأمره, تفكرمعه, وتحذره, هذه السلطة هي صوت الرواي العليم الذي يستعمل ضمير المخاطب في سرد الرواية, السلطة التي لصوت الراوي تصحب القارئ  لأخر الكتاب, هي سلطة غير صديقة ولا عدوة, لكنها  سلطة غاشمة متحكمة, تتماهى تماما مع طبيعة عمل شخصية بطل الرواية ضابط مباحث  يجد نفسه في عدة صراعات متتالية, صراعه الأول مع سلطة والده الضابط السابق الذي يرغب أن يمتهن ابنه مهنة ضابط المباحث , وان لا يصبح فناناً يرسم اللوحات كما يرغب, الضابط لا نعرف له اسماً هو ليس شخصاً , لكنه حالة انسانية شديدة الثراء يطلق عليه  أحد جنوده لقب "فجنون" وهو مزج كلمتي فن وجنون ويصير معروفا به بين زملاؤه . الضابط خريج المدارس الفرنسية , رسام موهوب, يقول الطويلة عن لسان الوالد لابنه " لو ترك أبناء الضباط المهنة للرعاع لتسلل الأوباش إلى حياتنا ولن نستطيع أن نعيش ,ثم أن الزمن القادم هو زمن الضباط وأنا أعرف أكثر منك" تتذكر أنك شعرت وقتها وكأنك في قاع قبر أو قبو معتم لُذت بفرشاتك ولوحاتك مقهوراً كنت ترسم لا تعرف كيف ترسم القهر و والرضوخ في لوحة,كنت تخربش بقلم أسود جاف دون دموع الحزن يطلق الدموع والقهر يحولها إلى حجارة."
" كم مرة استعمل الناس القلم او الفرشاة لآنهم لم يستطيعوا  ضغط الزناد"! فرجينيا وولف في تصدير الرواية.
السرادق قلب الحزن,الولوج إلى العالم السفلي :                                                      
 يغالب الضابط الفنان نفسه في هل يذهب لعزاء ابن ناجح أحد كبار المرشدين الذين يقدمون خدمات متنوعه للحكومة, السرادق هومكان و مركز الرواية ونقطة انطلاقها الثابتة تدور الكاميرا  في حركة بانورامية ليرسم الراوي لوحات انسانية شديدة الدقة والرهافة للعالم السفلي للقتلة ,تجار المخدرات , النصابين ,المزورين, مقاولي أنفار الإنتخابات, فتيات الليل, القوادات, وشهود الزور الذين يذهبون لعزاء  المعلم ناجح.
 يصارع الضابط نفسه,هل يغلب احساسه الإنساني أم تتغلب مقتضيات وظيفته كضابط.
ناجح مرشد الحكومة هو الشخصية المحورية الثانية في الرواية , شخصية شديدة الذكاء آسرة ,أب يرغب ان يكون ابنه ضابطاُ, مسجل خطر, تاجر حشيش لكنه شخص وطني, لا يتاجر في الهيروين حيث يعتقد أن أنه مؤامرة اسرائيلية ضد شباب البلاد. يقدم خدماته للضابط يحل معه ألغاز بوليسية وقضايا عديدة, يكشف ناجح للضابط سر مقتل أحد  عمال المقاهي, العامل قتل بطريقة بشعة , لم يتبقى منه إلا شبشب محترق, آثار الحريق  تكشف كيف قتل الفتى من صديق له إثر خلاف مالي..
 ناجح أيضا يساعد الضابط في كشف لغز الهجوم على احد كمائن الشرطة , تعتقد الداخلية أن الحادث عمل إرهابي, لكن ناجح يكتشف انهم مجرد لصوص ارتبكوا فأطلقوا الرصاص على الكمين!
 يحل ناجح القضايا المعقدة يقدم الإجابات,يسلم الجناة واللصوص, يتهم احد تجار المخدرات  الضابط بتعذيبه, لكن ناجح ينجح في تبرئة الضابط حيث يشهد لصالح الضابط صبيان ناجح.
  الجميل المتبادل والمنفعة بين  النقيضين , تشكل دانتيلا دقيقة جدا من المشاعر النفسية المتناقضة بين رجلين  تحتم طبيعة وجودهما ومهنتهما أن يظلا متصارعين
 السرداق هو مكان الإختبار الحقيقي, هل كانت علاقة يحتمها العمل أم امتدت لعمق الرجلين؟
من أمتع فصول الرواية هووصف تفاصيل تلقي العزاء في  الجمهورية السفلية للمسجلين. لكل شيء أصول,لكل عزاء قدسية حتى لو كان القتيل خارجأً عن القانون يقول الطويله" إذا كنت تتخيل أنك حين تدخل السرادق ستجد جهاز التسجيل به شرائط قرآن او سي دي او حتى فلاشة يو اس بي يبدلونها خلف بعضها البعض فأنت واهم، أنت امام سرادق حقيقي كما أُنزل، من النوع الفاخر، به خمسة مقرئين لا يأكل الواحد منهم أقل من كيلو لحم لوحده بين الربع والآخر.
كانوا يشيعون عن الشيخ عنتر والشيخ مصطفى وأبو العينين شعيشع أن كلا منهم يأكل ثلاثة كيلو لوحده وفي غرفة مغلقة.
ثلاثة كيلوات وسط كل هذا الهبو الأزرق، وتخيل وحدك كيف ستكون التلاوة.
كانوا يهمسون أن الشيخ لا يدخل قبل ان يأخذ التعميرة ويضبط دماغه، وكل شيء معد هنا سلفا لما يكفي سرادقين.
فكروا أن يأتوا بالشيخ مصطفى يشيل الليلة لوحده وهو قادر، لكنهم بعد محاولات اكتشفوا انه مات من زمان.
سترى نفرًا من اتباع ناجح يطوفون على المعزين بزجاجات البيرة من النوع القديم، بعلب الكانز منها للمستجدين ومدعي الأناقة، ستسمع فرقعة فتح الزجاجات كأنها قنابل صغيرة لو صوت فشنك لسلاح، كمسدس صوت، ستعرف حمية المعركة حين تشاهد الزجاجات الفارغة الرابضة بجوار المقاعد، لا احد يعيد فوارغه بل يكدسها بجانبه.
من يعب اكثر يشارك افضل بفمه وقلبه في دفع الحزن عن صاحب الحزن"..
 موزاييك المصائر التائهة:                                                                 
يتراص المعزون داخل السرادق ,  عماد مورد أنفار للإنتخابات, يشكل روابط مشجعي الكرة, قبل ظهور ألتراس النوادي الذين شاركوا في الثورة لاحقاً, المزور الروسي الوسيم,, مسعد النصاب الذي يزور تأشيرات العمرة للراغبين قبل أن يلقي بجوازات سفرهم في النيل, الضابط المزور الذي ينتحل شخصية ضابط بأوراق مزورة وينجح في تبوأ منصب وسرقة سلطة غير شرعية لسنوات.
 هناك أيضا من هم بين الضباط و المجرمين ,هناك فئة هواة الداخلية  محبي البوليس من فاتهم قطار الميري فقرروا التطوع له محبة وشغفاً.
  الشخصية الأولى عبقرينو, مهندس الإتصالات الناجح الذي يساعد  الضابط فجنون في حل القضايا, والثانية هي باسل الذي يتمتع بذكاء شديد يمكنه من انتحال شخصية فجنون نفسه من اجل الحصول على النساء,  العلاقة مع هؤلاء المريدين  أيضا هي احد جوانب الصراع التي يواجهها الضابط الفنان, ضابط يرفض والده ان يكون ابنه ضابط تشريفة يحرس جنازات, حين تمر جنازة الفنان عماد حمدي ويحرسها, يطلب والده ان  ينقل ابنه للمباحث أن يكون ضابطاً حقيقياً يعمل من اجل العدالة ولو قدم لها حياته
  فجنون بين رحى العشق:
 تمر نساء كثيرات على حياة فجنون, جارات ,صحفيات, عابرات للطريق, خادمات, كل منهن تقتنص جزءا من روحه ويسرق جزءا من روحها, أبرز نساءه ضي الصحفية التي تكتب قصة من ملفات البوليس والتي حضرت  لمكتبه بتوصية, ضي فتاة هشة رقيقة ضئيلة الجسد, تحب القطط  يقول عنها" لا تعشق امرأة تحب القطط!
سوف تتوه في حكايات غريبة وأسماء أغرب, ستتبدل رائحتك، ربما يصبح اسمك سيمو أو زغلول حسب مزاج حبيبتك، تنادي عليك بأسماء قططها، وستعرف ان سيمو هذا عاشق رقيق، بالكاد يخمش بعينيه، يمد يداً حانية تغطي عنق حبيبته، ويتراجع فوراً إن خمشته تدللاً او تمنعاً، يقف في منتصف المسافة ولا يعيد المحاولة مرة أخرى، بل ينتظر إشارة واضحة، يرمي منديله وان صدّته حبيبه يتمنع أيضآ ويحتفظ بكرامته، اما زغلول هذا أو زغلول الكبير كما يقال أحيانا فهو ولا فخر الفحل الذي يقوم بتلقيح كل القطط، لا يمد يداً حانية أو يرسل نظرة الغرام، خلق بدون غدد العواطف مواؤه زئير ممدود، عاطل لا يعرف غير القفز، وحين يهبط من فوق ظهر الفريسة يرسل نظرة متشفية للأخ سيمو الذي يسخر منه بنظرة، بحاجب ايسر مرفوع لأعلى : انت لست سوى ماكينة عمياء، لن يتذكرك احد انها ذاكرة إناث القطط التي تتفوق على ذاكرة السمك.
لا يمكن ان يكون زغلول هذا أو أي زغلول عاشقاً."
 هناك أيضاً الخادمة السارقة, التي تقوم بدور الأم والراعية واللصة, التي تكمن حتى تضرب ضربتها القاصمة وبين مشاعر السيد صاحب المنزل والضابط الصارم وبين مشاعر الإنسان الفنان المرهف الذي يرغب أن يساعد  امراة في محنة يعيش الضابط في صراع أخر..
 هذه الصراعات وتلك النماذج يسطرها الراوي الذي يتحدث بصوت السلطة القاهرة  ,والذي يتحول في الفصل الثالث عشر إلى صوت الماضي, ذاكرة الأحداث وأحيانا إلى صوت الصديق الغائب . وكأن الراوي يتخلى عن سلطته بيصيح ذاكرة صديقة في بعض الأحيان, وحين يحضر فجنون الفنان والإنسان, ونركن نجوم الضابط جانباً
 أنت متهم بإقامة أكثر من علاقة..!                                                                      
هذه الصراعات النفسية والعلاقات الملتبسة تحسم في النهاية, المؤسسة لا تتحمل ضابطاً فنان,  أما الفن او البوليس, أما الرهافة أو الصرامة, إما الفرشاة او الزناد, يتم توجيه اللوم للضابط : انت متهم باقامة أكثر من علاقة مع مسجل خطر, تعرف المؤسسة الخدمات التي قدمها المسجل لها, تعرف تلك الخدمات المتبادلة,  لكن يجب  أن تنأى بنفسها عنن حساسية  تلك العلاقة ان لا تدفع ثمنها, ان تغسل يدها من درنها, يتم تسريح فجنون, يأتي ضابط جديد مكانه ويحاول التنكيل بناجح ليثبت قوته, ويتربع على عرش سلطته, يصبح الضابط حراً يخطو بقدمه داخل السرادق رغم التحذيرات, اسقط من كاهله عبء منصبه, وانتصر لإنسانيته, ينهي  لوحته التي رسمها الروي لكل تلك الشخوص يرسم مصائرهم  يغلق حكاياتهم المعلقة’ يقفل قوس حيواتهم المشتعلة.
 الزمن يتحرك في القسم الأخير من الرواية من زمن  السرادق الثابت إلى زمن سائل متحرك, زمن يشبه ألوان لوحة تكتمل امام عيون القارىء كل لون منسكب يحدد مصيراً لقصة صاحبها..
 في السرادق يقدم الضابط العزاء, ويقابله ناجح دون حميمية, في الشارع يتفرق عبقرينو الذي ترك مهمة خدمة المؤسسة بعد ان ودع الضابط ,وتفرق كل منهما في طريق, يذهب الضابط لحياته الجديدة,  بفرشاته وأحلامه دون ان يخاف من ان يسأله أحد" أنت متهم بإقامة أكثر من علاقة..
 يقول الطويلة"كنت تشعر بالحصار من "جملة" الآن يمكنك  أن تنفلت حتى أخر الطرف, تلعب امام لوحاتك بجد تختاره ولا يفرض عليك, الأن يجب ان تنسى البدايات, النهاية مشرعة امامك, كلها ألوان لوحات ومعارض"
بعد روايته حذاء فلليني التي كانت تدور عن القمع السياسي الذي يمارسه بطل الرواية الضابط  في ارض روائية مختلفة تماماً, وبعد روايته "باب الليل"  التي وعلى نهجها يواصل إثبات نفسه كحكاء لا يبارى.
 في"جنازة جديدة لعماد حمدي", يلج وحيد طويلة أرضاً جديدة بأصوات سردية مدهشة, بحيوات وحكايات براقة مثل حبات الكريستال داخل مشكال  ملون, ألوان لوحة مبهرة لا يستطيع ان يغمض عينه أمام إبهار تفاصيلها..
 الرواية عن دار الشروق 2019.
_أماني خليل
يناير 2020
نشر في الفيصل السعودية فبراير 2020


الأحد، سبتمبر 29، 2019

كيف يرى الشعراء الشعر " طقوس الصلاة من داخل المعبد"




ثمن العظمة ارق ابدي..

تقول الشاعرة الإيطالية آلدا ميريني (1931-2009) " إذا حاول أحدهم/ أن يفهم نظرتك أيها الشاعر/ دافع عن نفسك بشراسة/ فنظرتك هي مئات النظرات  تلك التي تأملتك لا مبالية/ بينما كنت ترتجف"
 آلدا ميريني قامة من قامات الشعر الإيطالي الحديث, والتي
 قال عنها رئيس الجمهورية الإيطالية، جورجو نابوليتانو بأنها ذات "صوت شعري مُلهم  لم تتوقف عن كتابة الشعر طوال حياتها ، حتى أنها كتبت ديوانها وهي في إحدى المصحات العقلية التي قضت بها عشر سنوات. خلالها أبعدوها عن أولادها وزوجها وحياتها وقالوا لها: “هذه شياطينك، حاربيها اشارة على ماتكتبه من شعر كانت تتصرف بحرية تتعرى في كل مكان ومحفل, تدخن بشراسة. يرافقها دائما مشروبها الشعبي فهي لاتكتب إلا تحب تاثير السكر والدخان!

أصدر جيمس كوفمان مدير معهد البحوث بولاية كاليفورنيا دراسة ركزت على ظاهرة موت الشعراء مبكراً,تناولت الدراسة 1987 كاتباً بارزاً راحلاً وسجلت متوسط الأعمارعند وفاة الروائيين والشعراء وكتاب المسرح ذكورا وإناثاً من بينهم كتاب كنديون ومكسيكيون وصينيون وأتراك وأوربيون شرقيون إلى جانب كتاب وشعراء امريكيون
 تفيد الدراسة أن متوسط عمر الشعراء كان 63.3 سنة بالمقارنة بالكتاب غيرالروائيين الذين عاشوا حياة أطول67.7 بينما بلغ عمر الروائيين 67 سنة والكتاب المسرحيين 63 سنة.
 يتناول البحث معدلات الموت في مهن مختلفة إلى جانب الصلات بين القدرات الإبداعية والإضطراب العقلي ويقول البروفيسور ارثر لوديج  في كتابه "ثمن العظمة" : ان الإضطرابات النفسية كانت أكثر شيوعاً بين الفنانين وقد وجد لوديج أن حوالي20في المائة من الشعراء المرموقين قد انتحروا، بالقياس إلى معدل الإنتحار البالغ  4 في المائة في جميع المهن التي تناولتها الدراسة, بينما يبلغ معدل الانتحار في جميع أنجاء الولايات المتحدة  1في المائة تقريباً"
كذلك سجلت الدراسات ميل الشعراء لإيذاء النفس والميول الإنتحارية وإدمان المخدرات يقول الشاعرفرانز رايت الحائز على جائزة نوبل للشعر2004 والذي كتب بيانا عن هذه الظاهرة ورداً على الدراسات السابقة حيث انه كان أصيب بالإكتئاب المرضي وادمان الكحول والمخدرات: (إنه شيء مهين فالشعراء يعانون والكتاب يعانون, وثقافتنا لا تقدر الشعر وهي تصيب الشعراء بالجنون، لكن على المرء ان يخاطر)



يعتقد الشاعر كريستيان وايمان ان الشعر يتسم بإلحاحية سيكولوجية أكبر بكثير من اشكال الكتابة الأخرى." فإذا كنت كاتباً نثرياُ فسوف يكون لديك دائماً شيء لتعمله ,أما إذا كنت شاعراً فلن يكون للإرادة دور كبير فانت تواجه  قدراُ كبيرا من الوقت الميت الذي لا تستطيع ان تملأه بأشياء اخرى".  

يقول أيضاً الشاعر علاء خالد الصوت الشعري الهام في قصيدة النثر، والذي صدرت له عدة دواوين شعرية وكتب نثرية: أحب الآن الشعر الذي يخرج كدفق، بلا تسلسل، أو بتسلسل ولكنه غير درامي، ممتد في أفق غير واضح المعالم، يوجد ماقبله ومابعده، فالجملة الشعرية لحظة عبور، جزء من كل، ربما داخل الكل توجد "الحقيقة"، التي لايمكن الإحاطة بها، والتي بهذا الشكل ستتناسل وتتفرع لحقائق أخرى صغيرة، تملأ هذا الوجود الشعري الذي أصبح متسعا واتسعت معه فراغاته.
و يقول: أتصور أن الشعر يقف وراء أي شيء، بمعنى الحس الفلسفي المخلوط بحس وجودي، والاثنان مخلوطان بغموض المكان الذي تتكون فيه معادلة الشعر داخل نفس الشاعر وداخل الحياة. هذه التداخلات ربما هي الآن مكان/ ساحة لهذا الشعر، الذي ربما يفقد أحد أضلاعه لو لم يكن به قدرة على التفلسف الحر بلا فلسفة، أو إعادة صياغة الشعر داخل أفكار وإيقاعات يزدحم بها العقل الآن كالعدم والفناء والحياة والعبث، كلها تضع مستوى من التساؤل لاإجابة له.
  وعن تدفق الشعر تلك التجربة الخاصة والمتفردة ،المخاض الذاتي الذي يمُر به الشاعر في ولادة لذاته نفسها، ولإبداعه والذي يدفع ثمنه وحيداً ليحصد مجده وحيداً تقول ايضاً الشاعرة جيهان عمر : أحد يعلم تماما ما هو الشعر..أظنه ليس منفصلا عن الشاعر..كنت أتخيله أحيانا مثل خيمة ..وأنا أجلس تحتها ببساطة ،ولكن الخيمة هنا لا تعني الحماية أو الغطاء بقدر ما تعني  الاسباغ ،فكل ما يأتي الى ذهنك أو قلبك قد مرعلى هناك أولاً، أخذ من طبيعة نسيجه، رائحته ملمحا من روحه ،حتى خيوطه المتشابكة!                                 
ربما استوقفته أيضا عقدة من الوتد المشدود طويلا أمام النص، لا يعرف حتى كيف ينجو فيصاب بحزن لا أحد يعرف طبيعته غير شاعر ،أو ينزلق ببساطة من على سطح الخيمة فتجئ القصيدة السهلة المتدفقة بحرية ،أو يتوقف هناك فوق رأس عمود الخيمة، رافضاً بكبرياء أن يتحرك من هناك ،هذا هو النص المعلق الذي يشعرك دائما بأن هناك شيئا تريد أن تكتبه ولكنه لا يتنازل أبدا عن هذا المكان الفوقي ،يبقى معلقا ويبقى الشاعر مؤرقا الى الأبد.)

 الشعر: الذات المفردة في مواجهة  الكون..

تقول الشاعرة البريطانية نيكيتا لانج ت :ضي رحمي : (لا تستهن بالشعراء أبداً/ انهم قناصة مُسلّحون بالكلمات / يعرفون كيف يصيبون الهدف بالعبارات/ وكيف يطلقون النار بالمقاطع/ وكيف يخلدون قتلاهم في أبيات)
 الشاعر العربي  جعل الشعر وسيلته وطريقته  في مواجهة عالمه البدائي والقبلي البسيط  الشعر سلاحه المدمي ضد عدوه وثيقته الأبدية لتخليد عشقه /حبيبته عبر الزمن فابتكر الأغراض الشعرية المتعددة،هو يمدح ذاته من خلال مدح قبيلته , ينتقم من عدوه حين يهجو, يخلد قصة حبه في ابيات الغزل واللوعة, يعبر عن حنينه حين يبكي على الأطلال  .
 يختار أشكالاً من الكتابة الشعرية فالتزم بالموسيقي والجرس ليغني الناس شعره, فالموسيقى ترتب  عالم الخلود النهائي للنص  ثم يتمرد عليها  ليصنع عالما أخر في النثر وطرقاً جديدة ومغايرة وأكثر اتساعا ورحابة للمعني والحالة
الشاعر القديم احتوى الشعر والشعر احتواه  فقال عنترة بن شداد :
 (هل غادر الشعراء من متردم _ أم هل عرفت الدار بعد توهم) أي أن الشعراء لم يتركوا موضعاً لم يعبروا فيه بالشعر عن ذواتهم وعن صراعهم مع العالم ..
الشاعر حين يكتب فهو في مواجهة مع ذاته ومع العالم  مع موروثه الثقافي وإرثه  اللغوي. الشاعر الذي يستخدم قصيدته للتعبير عن صوته في مواجهة العالم لا يطلق صرخته  لتذهب سدى في برية الكون، لكنه في مواجهة طوال الوقت  مع نفسه, يخرج من جلده في عملية ميلاد جديدة ولائه فقط للكلمة بل أن وجوده نفسه قديكون مجردا في ديوانه، الأثر الذي يتركه ليدل على وجوده وعبوره في الحياة  بل هو الدليل الأهم يقول محمد أبو زيد : (لا أريد أن أترك أثراً على وجودي، إلا الشعر. إلا قصيدة منشورة هنا أو هناك، إلا كتاباً يقرأه شخص وحيد مثلي، وربما يعجبه، وحين  يبحث عن صورة لي لا يجد ما يدل على أنني كنت موجوداً إلا الأسطر التي قرأها. كنت بدون وعي أخلق حضوراً بديلاً لي عبر القصيدة. لم أكن أريد أن أترك أثراً إلا القصيدة. هذه التي كانت سندي وأنا صغير. التي صارت أماً بديلة لي، وذهبنا في رحلة طويلة ـ وأنا بعد في العاشرة ـ ولم أعد بعد.
في البداية كان الشعر انتصاراً على العالم بالنسبة لي. انتصار على الموت والغربة والخوف والحزن والاكتئاب وكل ما لا أستطيع فهمه.كنت أقرأ عن القصائد التي غيرت العالم وأقول سأفعل مثل هذا، كنت أظن أن قصيدة واحدة بإمكانها أن تخرج كوكباً من المجموعة الشمسية، بإمكانها أن تسقط أسلحة جنود في حرب عالمية جديدة، بإمكانها أن تبرئ الأكمه والأبرص وتحيي الموتى. وكنت أصدّق هذا. الآن ما زال الشعر يمثل لي أكبر انتصار شخصي على العالم، ليس لأنه يفعل هذا، بل لأنه يمنحني الحياة، لأنه يشجعني على المضي قدماُ، لأنه يحافظ عليّ من أن أصير شخصاً لا أرغبه. لأنه انتصاري الصغير والوحيد، لأنه مفتاحي الوحيد لأبواب الأسئلة التي لم أعرف إجابتها، لكنني على الأقل فهمتها.
 بينما يرى علاء خالد ان الشعر هو طريقه وطريقته لقول الحقيقة  فيقول:
"بدأت كتابة الشعر وفي نيتي أن اقول الحقيقة". مستوى حاد من البوح، ومع البوح هناك مخزن للتفاصيل له علاقة بالطفولة على الأرجح، حيث توجد "الحقيقة" هناك، مفارقة هذا الطفل مع العالم المحيط به. كانت هذه الحقيقة مغنَّاة، لها حس ملحمي، كونها عبرت بذاكرة عدة أجيال لتصل إلى ذاكرتي في النهاية.
كان هناك أيضا نزوع سوريالي في بعض القصائد- ربما لم أنشرها في ديوان- لنوع آخر من "الحقيقة"، بعد أن يضاف لها الخيال، داخل هذه المناطق البينية التي لاتشغلها الذاكرة، أو تفاصيل حياتية منجزة، بل تمتليء فقط بطموح اللغة حتى تصل لمسافة أبعد من الحقيقة. هذه المسافة التي ربما يتأكد فيها القول الشعري بوصفه شعرا حتى ولو لم يتواشج مع واقعة حياتية، أو واقعة ذكرى..
 


الشعر جدارية الميلاد والحب والموت:

يقول الشاعر محمد أبو زيد صاحب التجربة الشعرية الهامة والصوت المميز: ( اخترت الوحدة لأنها كانت طريقي للكتابة. فطبعت جلّ قصائدي، بتنويعاتها المختلفة. أول قصيدة لي كانت عن الموت، كانت محاولة للفهم. لماذا ماتت أمي؟ وماذا يعني ذلك؟ لم أحصل على إجابة فظل السؤال ينتقل من قصيدة إلى قصيدة. ومن ديوان إلى ديوان. لم أصل إلى إجابة، ويبدو أنني لن أصل. وأخشى أن أصل فأتوقف عن الكتابة. لكن ما أزعمه أن الأسئلة قرّبتني من الموت، جعلتني أفهمه أكثر. لم أعد أعاديه كما كنت أفعل في البداية، لم أعد ذلك الطفل المصدوم في موت أمه، كنت كمن خاض التجربة فعرف وفهم، وهو ما تجلّى في عنواني أول ديوانين لي ـ لم يصدرا لأنني قررت عدم نشرهما في اللحظات الأخيرة ـ كان الأول يحمل اسم "ربما أموت هذا المساء"، وكان الثاني قصيدة طويلة من تسعين صفحة عنوانها "يبدو أنني قد مت فعلاً"، وكان عنوان أول دواويني صدوراً يكمل هذين المعنيين "ثقب في الهواء بطول قامتي"، وهو عنوان قصيدة بمثابة أول مرثية لأمي ولي في نفس الوقت، وظل سؤال الموت ينتقل من ديوان لآخر حتى فتر تماماً، لا أعرف هل لأنني تعبت أم يئست من الحصول على الإجابة. فهل بهذا تخلصت من هذا السؤال المر؟ لا. لأنه تولدت أسئلة أخرى متشابكة معه، أريد أن أفهمها وأعرف إجابتها.
يمكن القول إن ما حدث مع الموت، حدث مع قضية الاغتراب بالنسبة لي، ففي مطلع العام 2013 انتقلت للعمل في إحدى الدول العربية، كانت تجربة جديدة كلية علي. وكتبت هناك ديواني "مقدمة في الغياب"، كان الديوان بمثابة صرخة ضد الغربة. لكن الأمر تغير مع صدور الديوان التالي بعد 3 سنوات "سوداء وجميلة"، كنت قد تصالحت فيه مع غربتي، وجاء الديوان ـ حسبما أعتقد ـ ليحاول تفكيك مفردات هذا العالم الجديد عليّ ويحاول فهمها، خفت نبرة الاندهاش والاغتراب، وظلت نظرة الشخص الذي ينظر من بعيد لكنه فهم شيئاً ما.
 ومن تفكيك العالم والوقوف على حافته في حالة أبو زيد إلى خفة في الروح ولذة في القلب
 تقول  الشاعرة جيهان عمرعن طقوسها في مواجهة الشعر وحيدة : (لا طقس لدي فالشعر يباغتك بالفعل رغم كونه نادرا وعزيزا ولكنه لا يطمع سوى في الانفراد بك ..وحيدا تماما وبعيدا عن الصخب ..فلا أحد يرغب في أن يراه الآخر عاريا وهذه تماما هي لحظة الشعر.. أنت عاريا ووحيدا تحت خيمة .. فقط شعور واحد يتكرر في كل مرة ..كلما بدأت في كتابة نص أشعر أن ذاكرتي مثقوبة،الكلمات  صارت بمحاذاة قدمي ،وقلبي فارغ ،أي وعاء هذا الذي يفرغ ما بداخله أولا بأول،الانسان يرتوي بالامتلاء..وأنا مبتلية بافراغ كل شيء ، ثقوب كثيرة في وعاء من فخار،التسريب بطئ ولا يرى أشعربه ،خفة تتسلل اليّ ،بلل لطيف يرطب القلب،سريان لأشياء وهمية في مسارات الطاقة،حركة دؤوبة على مدار اليوم يبدو وكأنه ليس هناك امتلاء في هذه الناحية من العالم،أتحرك بخفة ، أسرع من خطواتي، أعدو،أنام،مثل زجاج مصقول ينزلق الماء وتخدشني الكلمات وقد أتفتت على نحو مفاجئ.)
 ومن خدش الكلمات  لمواجهة الموت تقول الشاعرة الأمريكية ميجي روبر في قصيدة النهايات  ت، ضي رحمي:
(كل الشعراء المشهورين ماتوا أبشع ميتات /بفعل الحب/ أو الشراب/ أو الزمن/ في مكان ما يذكرني أحدهم/ بأن الجمال لا يزال موجوداً في هذا العالم / ليس في هطول مفاجيء للمطر / أو زهرة تيوليب في يد طفلٍ/ ولا في الأنهار التي تفيض حولنا وإنما- فقط - في حرصنا على ان نكون آخر من يغادر.)
بقول علاء خالد: أتصور أن الشعر يقف وراء أي شيء، بمعنى الحس الفلسفي المخلوط بحس وجودي، والاثنان مخلوطان بغموض المكان الذي تتكون فيه معادلة الشعر داخل نفس الشاعر وداخل الحياة. هذه التداخلات ربما هي الآن مكان/ ساحة لهذا الشعر، الذي ربما يفقد أحد أضلاعه لو لم يكن به قدرة على التفلسف الحر بلا فلسفة، أو إعادة صياغة الشعر داخل أفكار وإيقاعات يزدحم بها العقل الآن كالعدم والفناء والحياة والعبث، كلها تضع مستوى من التساؤل لاإجابة له...




شكر :لشهادات الشعراء : علاء خالد، جيهان عمر ، محمد أبو زيد
وترجمات: ضي رحمي
مصادر : قراءات في الشعر الأمريكي المعاصر، المركز القومي للترجمة

 أماني خليل


"