الأحد، سبتمبر 29، 2019

كيف يرى الشعراء الشعر " طقوس الصلاة من داخل المعبد"




ثمن العظمة ارق ابدي..

تقول الشاعرة الإيطالية آلدا ميريني (1931-2009) " إذا حاول أحدهم/ أن يفهم نظرتك أيها الشاعر/ دافع عن نفسك بشراسة/ فنظرتك هي مئات النظرات  تلك التي تأملتك لا مبالية/ بينما كنت ترتجف"
 آلدا ميريني قامة من قامات الشعر الإيطالي الحديث, والتي
 قال عنها رئيس الجمهورية الإيطالية، جورجو نابوليتانو بأنها ذات "صوت شعري مُلهم  لم تتوقف عن كتابة الشعر طوال حياتها ، حتى أنها كتبت ديوانها وهي في إحدى المصحات العقلية التي قضت بها عشر سنوات. خلالها أبعدوها عن أولادها وزوجها وحياتها وقالوا لها: “هذه شياطينك، حاربيها اشارة على ماتكتبه من شعر كانت تتصرف بحرية تتعرى في كل مكان ومحفل, تدخن بشراسة. يرافقها دائما مشروبها الشعبي فهي لاتكتب إلا تحب تاثير السكر والدخان!

أصدر جيمس كوفمان مدير معهد البحوث بولاية كاليفورنيا دراسة ركزت على ظاهرة موت الشعراء مبكراً,تناولت الدراسة 1987 كاتباً بارزاً راحلاً وسجلت متوسط الأعمارعند وفاة الروائيين والشعراء وكتاب المسرح ذكورا وإناثاً من بينهم كتاب كنديون ومكسيكيون وصينيون وأتراك وأوربيون شرقيون إلى جانب كتاب وشعراء امريكيون
 تفيد الدراسة أن متوسط عمر الشعراء كان 63.3 سنة بالمقارنة بالكتاب غيرالروائيين الذين عاشوا حياة أطول67.7 بينما بلغ عمر الروائيين 67 سنة والكتاب المسرحيين 63 سنة.
 يتناول البحث معدلات الموت في مهن مختلفة إلى جانب الصلات بين القدرات الإبداعية والإضطراب العقلي ويقول البروفيسور ارثر لوديج  في كتابه "ثمن العظمة" : ان الإضطرابات النفسية كانت أكثر شيوعاً بين الفنانين وقد وجد لوديج أن حوالي20في المائة من الشعراء المرموقين قد انتحروا، بالقياس إلى معدل الإنتحار البالغ  4 في المائة في جميع المهن التي تناولتها الدراسة, بينما يبلغ معدل الانتحار في جميع أنجاء الولايات المتحدة  1في المائة تقريباً"
كذلك سجلت الدراسات ميل الشعراء لإيذاء النفس والميول الإنتحارية وإدمان المخدرات يقول الشاعرفرانز رايت الحائز على جائزة نوبل للشعر2004 والذي كتب بيانا عن هذه الظاهرة ورداً على الدراسات السابقة حيث انه كان أصيب بالإكتئاب المرضي وادمان الكحول والمخدرات: (إنه شيء مهين فالشعراء يعانون والكتاب يعانون, وثقافتنا لا تقدر الشعر وهي تصيب الشعراء بالجنون، لكن على المرء ان يخاطر)



يعتقد الشاعر كريستيان وايمان ان الشعر يتسم بإلحاحية سيكولوجية أكبر بكثير من اشكال الكتابة الأخرى." فإذا كنت كاتباً نثرياُ فسوف يكون لديك دائماً شيء لتعمله ,أما إذا كنت شاعراً فلن يكون للإرادة دور كبير فانت تواجه  قدراُ كبيرا من الوقت الميت الذي لا تستطيع ان تملأه بأشياء اخرى".  

يقول أيضاً الشاعر علاء خالد الصوت الشعري الهام في قصيدة النثر، والذي صدرت له عدة دواوين شعرية وكتب نثرية: أحب الآن الشعر الذي يخرج كدفق، بلا تسلسل، أو بتسلسل ولكنه غير درامي، ممتد في أفق غير واضح المعالم، يوجد ماقبله ومابعده، فالجملة الشعرية لحظة عبور، جزء من كل، ربما داخل الكل توجد "الحقيقة"، التي لايمكن الإحاطة بها، والتي بهذا الشكل ستتناسل وتتفرع لحقائق أخرى صغيرة، تملأ هذا الوجود الشعري الذي أصبح متسعا واتسعت معه فراغاته.
و يقول: أتصور أن الشعر يقف وراء أي شيء، بمعنى الحس الفلسفي المخلوط بحس وجودي، والاثنان مخلوطان بغموض المكان الذي تتكون فيه معادلة الشعر داخل نفس الشاعر وداخل الحياة. هذه التداخلات ربما هي الآن مكان/ ساحة لهذا الشعر، الذي ربما يفقد أحد أضلاعه لو لم يكن به قدرة على التفلسف الحر بلا فلسفة، أو إعادة صياغة الشعر داخل أفكار وإيقاعات يزدحم بها العقل الآن كالعدم والفناء والحياة والعبث، كلها تضع مستوى من التساؤل لاإجابة له.
  وعن تدفق الشعر تلك التجربة الخاصة والمتفردة ،المخاض الذاتي الذي يمُر به الشاعر في ولادة لذاته نفسها، ولإبداعه والذي يدفع ثمنه وحيداً ليحصد مجده وحيداً تقول ايضاً الشاعرة جيهان عمر : أحد يعلم تماما ما هو الشعر..أظنه ليس منفصلا عن الشاعر..كنت أتخيله أحيانا مثل خيمة ..وأنا أجلس تحتها ببساطة ،ولكن الخيمة هنا لا تعني الحماية أو الغطاء بقدر ما تعني  الاسباغ ،فكل ما يأتي الى ذهنك أو قلبك قد مرعلى هناك أولاً، أخذ من طبيعة نسيجه، رائحته ملمحا من روحه ،حتى خيوطه المتشابكة!                                 
ربما استوقفته أيضا عقدة من الوتد المشدود طويلا أمام النص، لا يعرف حتى كيف ينجو فيصاب بحزن لا أحد يعرف طبيعته غير شاعر ،أو ينزلق ببساطة من على سطح الخيمة فتجئ القصيدة السهلة المتدفقة بحرية ،أو يتوقف هناك فوق رأس عمود الخيمة، رافضاً بكبرياء أن يتحرك من هناك ،هذا هو النص المعلق الذي يشعرك دائما بأن هناك شيئا تريد أن تكتبه ولكنه لا يتنازل أبدا عن هذا المكان الفوقي ،يبقى معلقا ويبقى الشاعر مؤرقا الى الأبد.)

 الشعر: الذات المفردة في مواجهة  الكون..

تقول الشاعرة البريطانية نيكيتا لانج ت :ضي رحمي : (لا تستهن بالشعراء أبداً/ انهم قناصة مُسلّحون بالكلمات / يعرفون كيف يصيبون الهدف بالعبارات/ وكيف يطلقون النار بالمقاطع/ وكيف يخلدون قتلاهم في أبيات)
 الشاعر العربي  جعل الشعر وسيلته وطريقته  في مواجهة عالمه البدائي والقبلي البسيط  الشعر سلاحه المدمي ضد عدوه وثيقته الأبدية لتخليد عشقه /حبيبته عبر الزمن فابتكر الأغراض الشعرية المتعددة،هو يمدح ذاته من خلال مدح قبيلته , ينتقم من عدوه حين يهجو, يخلد قصة حبه في ابيات الغزل واللوعة, يعبر عن حنينه حين يبكي على الأطلال  .
 يختار أشكالاً من الكتابة الشعرية فالتزم بالموسيقي والجرس ليغني الناس شعره, فالموسيقى ترتب  عالم الخلود النهائي للنص  ثم يتمرد عليها  ليصنع عالما أخر في النثر وطرقاً جديدة ومغايرة وأكثر اتساعا ورحابة للمعني والحالة
الشاعر القديم احتوى الشعر والشعر احتواه  فقال عنترة بن شداد :
 (هل غادر الشعراء من متردم _ أم هل عرفت الدار بعد توهم) أي أن الشعراء لم يتركوا موضعاً لم يعبروا فيه بالشعر عن ذواتهم وعن صراعهم مع العالم ..
الشاعر حين يكتب فهو في مواجهة مع ذاته ومع العالم  مع موروثه الثقافي وإرثه  اللغوي. الشاعر الذي يستخدم قصيدته للتعبير عن صوته في مواجهة العالم لا يطلق صرخته  لتذهب سدى في برية الكون، لكنه في مواجهة طوال الوقت  مع نفسه, يخرج من جلده في عملية ميلاد جديدة ولائه فقط للكلمة بل أن وجوده نفسه قديكون مجردا في ديوانه، الأثر الذي يتركه ليدل على وجوده وعبوره في الحياة  بل هو الدليل الأهم يقول محمد أبو زيد : (لا أريد أن أترك أثراً على وجودي، إلا الشعر. إلا قصيدة منشورة هنا أو هناك، إلا كتاباً يقرأه شخص وحيد مثلي، وربما يعجبه، وحين  يبحث عن صورة لي لا يجد ما يدل على أنني كنت موجوداً إلا الأسطر التي قرأها. كنت بدون وعي أخلق حضوراً بديلاً لي عبر القصيدة. لم أكن أريد أن أترك أثراً إلا القصيدة. هذه التي كانت سندي وأنا صغير. التي صارت أماً بديلة لي، وذهبنا في رحلة طويلة ـ وأنا بعد في العاشرة ـ ولم أعد بعد.
في البداية كان الشعر انتصاراً على العالم بالنسبة لي. انتصار على الموت والغربة والخوف والحزن والاكتئاب وكل ما لا أستطيع فهمه.كنت أقرأ عن القصائد التي غيرت العالم وأقول سأفعل مثل هذا، كنت أظن أن قصيدة واحدة بإمكانها أن تخرج كوكباً من المجموعة الشمسية، بإمكانها أن تسقط أسلحة جنود في حرب عالمية جديدة، بإمكانها أن تبرئ الأكمه والأبرص وتحيي الموتى. وكنت أصدّق هذا. الآن ما زال الشعر يمثل لي أكبر انتصار شخصي على العالم، ليس لأنه يفعل هذا، بل لأنه يمنحني الحياة، لأنه يشجعني على المضي قدماُ، لأنه يحافظ عليّ من أن أصير شخصاً لا أرغبه. لأنه انتصاري الصغير والوحيد، لأنه مفتاحي الوحيد لأبواب الأسئلة التي لم أعرف إجابتها، لكنني على الأقل فهمتها.
 بينما يرى علاء خالد ان الشعر هو طريقه وطريقته لقول الحقيقة  فيقول:
"بدأت كتابة الشعر وفي نيتي أن اقول الحقيقة". مستوى حاد من البوح، ومع البوح هناك مخزن للتفاصيل له علاقة بالطفولة على الأرجح، حيث توجد "الحقيقة" هناك، مفارقة هذا الطفل مع العالم المحيط به. كانت هذه الحقيقة مغنَّاة، لها حس ملحمي، كونها عبرت بذاكرة عدة أجيال لتصل إلى ذاكرتي في النهاية.
كان هناك أيضا نزوع سوريالي في بعض القصائد- ربما لم أنشرها في ديوان- لنوع آخر من "الحقيقة"، بعد أن يضاف لها الخيال، داخل هذه المناطق البينية التي لاتشغلها الذاكرة، أو تفاصيل حياتية منجزة، بل تمتليء فقط بطموح اللغة حتى تصل لمسافة أبعد من الحقيقة. هذه المسافة التي ربما يتأكد فيها القول الشعري بوصفه شعرا حتى ولو لم يتواشج مع واقعة حياتية، أو واقعة ذكرى..
 


الشعر جدارية الميلاد والحب والموت:

يقول الشاعر محمد أبو زيد صاحب التجربة الشعرية الهامة والصوت المميز: ( اخترت الوحدة لأنها كانت طريقي للكتابة. فطبعت جلّ قصائدي، بتنويعاتها المختلفة. أول قصيدة لي كانت عن الموت، كانت محاولة للفهم. لماذا ماتت أمي؟ وماذا يعني ذلك؟ لم أحصل على إجابة فظل السؤال ينتقل من قصيدة إلى قصيدة. ومن ديوان إلى ديوان. لم أصل إلى إجابة، ويبدو أنني لن أصل. وأخشى أن أصل فأتوقف عن الكتابة. لكن ما أزعمه أن الأسئلة قرّبتني من الموت، جعلتني أفهمه أكثر. لم أعد أعاديه كما كنت أفعل في البداية، لم أعد ذلك الطفل المصدوم في موت أمه، كنت كمن خاض التجربة فعرف وفهم، وهو ما تجلّى في عنواني أول ديوانين لي ـ لم يصدرا لأنني قررت عدم نشرهما في اللحظات الأخيرة ـ كان الأول يحمل اسم "ربما أموت هذا المساء"، وكان الثاني قصيدة طويلة من تسعين صفحة عنوانها "يبدو أنني قد مت فعلاً"، وكان عنوان أول دواويني صدوراً يكمل هذين المعنيين "ثقب في الهواء بطول قامتي"، وهو عنوان قصيدة بمثابة أول مرثية لأمي ولي في نفس الوقت، وظل سؤال الموت ينتقل من ديوان لآخر حتى فتر تماماً، لا أعرف هل لأنني تعبت أم يئست من الحصول على الإجابة. فهل بهذا تخلصت من هذا السؤال المر؟ لا. لأنه تولدت أسئلة أخرى متشابكة معه، أريد أن أفهمها وأعرف إجابتها.
يمكن القول إن ما حدث مع الموت، حدث مع قضية الاغتراب بالنسبة لي، ففي مطلع العام 2013 انتقلت للعمل في إحدى الدول العربية، كانت تجربة جديدة كلية علي. وكتبت هناك ديواني "مقدمة في الغياب"، كان الديوان بمثابة صرخة ضد الغربة. لكن الأمر تغير مع صدور الديوان التالي بعد 3 سنوات "سوداء وجميلة"، كنت قد تصالحت فيه مع غربتي، وجاء الديوان ـ حسبما أعتقد ـ ليحاول تفكيك مفردات هذا العالم الجديد عليّ ويحاول فهمها، خفت نبرة الاندهاش والاغتراب، وظلت نظرة الشخص الذي ينظر من بعيد لكنه فهم شيئاً ما.
 ومن تفكيك العالم والوقوف على حافته في حالة أبو زيد إلى خفة في الروح ولذة في القلب
 تقول  الشاعرة جيهان عمرعن طقوسها في مواجهة الشعر وحيدة : (لا طقس لدي فالشعر يباغتك بالفعل رغم كونه نادرا وعزيزا ولكنه لا يطمع سوى في الانفراد بك ..وحيدا تماما وبعيدا عن الصخب ..فلا أحد يرغب في أن يراه الآخر عاريا وهذه تماما هي لحظة الشعر.. أنت عاريا ووحيدا تحت خيمة .. فقط شعور واحد يتكرر في كل مرة ..كلما بدأت في كتابة نص أشعر أن ذاكرتي مثقوبة،الكلمات  صارت بمحاذاة قدمي ،وقلبي فارغ ،أي وعاء هذا الذي يفرغ ما بداخله أولا بأول،الانسان يرتوي بالامتلاء..وأنا مبتلية بافراغ كل شيء ، ثقوب كثيرة في وعاء من فخار،التسريب بطئ ولا يرى أشعربه ،خفة تتسلل اليّ ،بلل لطيف يرطب القلب،سريان لأشياء وهمية في مسارات الطاقة،حركة دؤوبة على مدار اليوم يبدو وكأنه ليس هناك امتلاء في هذه الناحية من العالم،أتحرك بخفة ، أسرع من خطواتي، أعدو،أنام،مثل زجاج مصقول ينزلق الماء وتخدشني الكلمات وقد أتفتت على نحو مفاجئ.)
 ومن خدش الكلمات  لمواجهة الموت تقول الشاعرة الأمريكية ميجي روبر في قصيدة النهايات  ت، ضي رحمي:
(كل الشعراء المشهورين ماتوا أبشع ميتات /بفعل الحب/ أو الشراب/ أو الزمن/ في مكان ما يذكرني أحدهم/ بأن الجمال لا يزال موجوداً في هذا العالم / ليس في هطول مفاجيء للمطر / أو زهرة تيوليب في يد طفلٍ/ ولا في الأنهار التي تفيض حولنا وإنما- فقط - في حرصنا على ان نكون آخر من يغادر.)
بقول علاء خالد: أتصور أن الشعر يقف وراء أي شيء، بمعنى الحس الفلسفي المخلوط بحس وجودي، والاثنان مخلوطان بغموض المكان الذي تتكون فيه معادلة الشعر داخل نفس الشاعر وداخل الحياة. هذه التداخلات ربما هي الآن مكان/ ساحة لهذا الشعر، الذي ربما يفقد أحد أضلاعه لو لم يكن به قدرة على التفلسف الحر بلا فلسفة، أو إعادة صياغة الشعر داخل أفكار وإيقاعات يزدحم بها العقل الآن كالعدم والفناء والحياة والعبث، كلها تضع مستوى من التساؤل لاإجابة له...




شكر :لشهادات الشعراء : علاء خالد، جيهان عمر ، محمد أبو زيد
وترجمات: ضي رحمي
مصادر : قراءات في الشعر الأمريكي المعاصر، المركز القومي للترجمة

 أماني خليل


"


الجمعة، أبريل 12، 2019

أشباح بيت هاينريش بل




عن تجربة السفرلألمانيا من خلال منحة أدبية حصل عليها الكاتب "علاء خالد" من مؤسسة هاينريش بُل الألمانية, مقر المنحة؛ في أحدى قرى ألمانيا "لانجنبوريخ " وفي البيت الذي وهبه كاتب نوبل للمضطهدين من الكتاب في كافة انحاء العالم ,وذلك إبّان  ثورة يناير. تدورأحداث كتابه الأخير"أشباح بيت هاينريش بُل" الصادرحديثاً عن دار الشروق.
يدور أيضاً عن مجموعة العلاقات الإنسانية والنقاشات والمشاعر والفلسفات التي جمعت الكاتب  "علاء خالد " بسكان البيت ورفاق المنحة مع اختلافهم واتفاقهم, وعن نظرتهم لذواتهم وللحياة,علاقاتهم بأوطانهم وبالثورات, نظرتهم  للديموقراطية والحريات, وضع الأقليات, ومساحة الدين في حياتهم,علاقاتهم الأسرية  لحظات الدفء والحِدّة, واللقاء الوداع .
 البيت الذي يعيش فيه رفاق المنحة طوال اربعة أشهر يتكون من طابق ارضي يضم مطبخ وصاله طعام ويمينها غرفة جلوس كبيرة  الطابق الثاني ينتهي بعليّة لها شباكين كبيرين يطلان على شجرة كبيرة, وهناك نُزل يضم يضم أربعة استديوهات وشقة صغيرة ,أشتراها هاينريش لتكون مقرا للإقامة الصيفية .ثم  أنشأ ورثته مؤسسة باسمه تدير البيت تتبع حزب الخضر الألماني. بيت هاينريش بُل في وسط صحراء بداخلها غابة تشبه رحماً يضم اربعة أجنة,  أو ديراً يضم أربعة رهبان لا وجود لأي روح انثوية, وهو ما لا يمكن تفسيره إلا بأن القرية نفسها قليلة النساء , والموجودات كبيرات السن!
 يقول خالد" كنا نعيش في هذا البيت  كأنه دير به أربعة رهبان من بلاد مختلفة, بدلا من ان يقوموا بالصلاة , استبدلوا بها الكتابة, كل واحد داخل قلايته, يتهّجد من اجل ان يمنحه الله فيئاً في نهاية اليوم, نخرج أحيانا من قلايتنا , نتبادل بعض الحديث , نشرب سجائر وكئوسا من دم المسيح, ثم نعود مرة أخرى إحساس ذكوري عارم يخيم على المكان, تذكرت الفيلم القديم الكوميدي,الذي يذهب فيه اربعة رجال إلى مكان ناءٍ ليبتعدوا عن النساء اللاتي سببن لهم كثيرا من المتاعب,كأنها عقيدة جديدة شعارها" فلتسقط الستات" ".

الشخصيات الرئيسية التي يدور عنها سرد الكتاب أصدقاء المنحة الأدبية هم:
زوفنكو الشاعر الصربي ذو الملامح الشرقية والشعر الفاحم بسبب جذوره التركية ,الذي  نعرف من  خلاله التقاطعات بين الثورة المصرية والثورة الصربية التي  ازاحت الشيوعيين ثم اعادتهم للحكم مرة ثانية. في سنة 1999قررت أوروبا الموحدة اقصاء الرئيس "سلوبودان ميلوسوفيتش" الذي كان من بقايا الهوى الشيوعي اليساري عن الحكم , أروبا الموحدة ذات الهوى  اليميني, تقرر للمرة الأولى قصف بلد أوروبي ,قررت اوروبا حينها السماح لأقليم البوسنة ذي الأغلبية المسلمة بالإنفصال عن صربيا, وقتها رفض الرئيس ميلوسوفيتش ذو العرق السلافي,وأجبر زوفنكو على التطوع في الجيش الصربي لمحاربة الناتو, كان قد تزوج منذ عشر سنوات وكان في بداية تثبيت قدمه في مجال الأدب.
يختلف زوفنكو مع علاء خالد فيقول الأخير" عندما يضبطني زوفنكو وانا اتحدث  عن الثورة في مصر بلهفة وعاطفية, يقول لي" ارجوك متكونش فرحان كده"."ولكن يا زوفنكو اعتبرني مثل جيرمان من هؤلاء الفارين من الثورة, جئت إلى هنا كي اكتب عن حلم شهور الثورة الأولى ",أجيب. يقصد أن الثورة عندما تأخذ مداها, وتتحول لحياة يومية, فإنهالا تتحرك على طريق الأحلام الواسع, الذي تخيلناه جميعاً. ولنا العذر ان تنفجر صرة الأحلام, الثورة تخلف خيبة أمل للجميع , ليس بسببها او بسبب مثالية الناس وإنما لن هناك مستوين من الأحلام لا يتقاطعان إلا نادراً. مستويان كانا شيئا واحدا أثناء الأيام  الاولى الثورة , اما بعدها فكل يأخذ طريقه. لا اعتقد ان ان هناك ثورة كاملة لا تخلف خيبة امل أي ثورة مهما كانت دمويتها او نقاؤها ,هي ثورة ناقصة لأنها تعيش على قوس قزح ولأن هناك ماضيا لا يمكن التغاضي عنه, يقتات على هذا الكائن الجديد"
_ألجريد هو الشخصية الثانية في بيت هاينريش بل وهوكاتب من بيلا روسيا يبدو  اكبر من سنه حيث فهو في منتصف الثلاثينيات.لكن  يعيش مأساة شعبه  الذي يقع تحت الاحتلال الروسي ويصر دوماً على تأكيد هويته وأزمته, كمواطن بيلا روسي, وعند سؤاله عن أي من الكتاب الروس ؛يصر على توضيح الفرق بينهم وبين الكتاب البيلاروسيين.
 يحكي ألجريد تلك الحكاية بسخرية موجهة للذات أكثر من كونها موجهة للأخرين
" يحكى عن احد الكتاب الروس عندما دعي إلى إحدى مهرجان شعري في إحدى دول أوروبا التي تتكلم الإنجليزية, ظل معزولاً لعدم معرفته باللغة وطوال الوقت ظل جالساً يغرفته بالفندق, وحيداً يضع يده على خده كما صوره ألجريد, وعندما قرر النزول لشراء حاجيات الطعام والفودكا من السوبر ماركت عاد فلم يجد ثلاجة في غرفته, ففعل كما يفعل الروس بأن وضع الطعام وزجاجة الفودكا على الإفريز خلف زجاج الشباك , فالجو قارس البرودة وكفيل  بأن يحل محل الثلاجة المهم في الصباح قام  ليبحث عن حاجياته  فلم يجدها لقد أخذتها الريح إلى أسفل , وقام كل الشعراء المشاركين في المهرجان بلملمة حاجيات الشاعر الروسي كأنها تمثل كرامته المبعثرة على الأرض بعد ان نال قسطاً وافرا من السخرية ."
 
جيرمان: وهو كاتب روسي من أم شيشانية اختار بوعي مطلق انتمائه للأمه الروسية ويعلن بوضوح تنصله من أي روابط تربطه بالشيشان , جيرمان له هيئة  تشير لاكتئابه الواضح وصراعاته النفسية, له جسد ضخم وانحناءه ملحوظة, كتب جيرمان كتابهالشهير" أنا شيشاني" والذي كرس فيه لاحتقاره وكراهيته للمسلمين الشيشان ذوي التوجهات الجهادية الأصولية, والذي يصفهم  بأنهم "هيبو قراط"وهو ما يضعه لاحقا في صراع مع ألجريد البيلا روسي المعتز بقوميته, وبقضيته الوطنية التحررية من الجسد الروسي الكبير.
 جيرمان عمل في المزارع الروسية كأجير في جمع روث الحيوانات, وحين دخل الجامعة لم يكن لديه ما يرتديه سوى سترة أبيه الأكبر حجماً منه.."انا شيشاني" كتاب عن انفصال الشيشان عن روسيا وارثة الاتحاد السوفييتي القديم وصراعها معها من اجل الانفصال.وفيه نقد للهوية الاسلامية في الشيشان مما جعله معرضا للموت في وطنه .
 هناك أيضا السيدة زيجرون مسئولة الورشة, ومتطوعتي الورشة السيدة زيليكا وانكا" وجارة البيت السيدة لودفيج وابنها ديتليف المتلصصين على سكان البيت بشكل متواصل.
 البشر والمكان ليسا محور فقط الكتاب ولكن النقاشات والخلافات والتأثير الروحي و الثقافي بين أربعة رجال ينتمون للكتلة الشرقية, يستعير علاء خالد كتاب" سخرية لا نهائية" لديفيد فوستر والاس من صديقه  زوفنكو تستوقفه النزعة التشاؤمية الحادة والصادقة والساخرة ضد الغرب الاستهلاكي في الكتاب فيتناقش فيه مع زوجته  الفنانة التشكيلية سلوى رشاد الحاضرة في الكتاب بقوة كصديقة وزوجة وشريكة فكرية, يتبادلان ترجمة مقاطع من الكتاب ويتناقشان حول ترجمة المقاطع الهامة بالكتاب عبر الاسكايب, يقول خالد أن كلمة "لا نهائية" الواردة في عنوان الكتاب تعطي قدرية لا راد لها. هذه الروح الأمريكية ابنة الإيمان بالروح والأرض للأباء المؤسسين لهذا البلد الجبار يجمع خالد قصاصات من هذا الكتاب ؛لمشروع سيتمه يوماً ما سيسميه رواية الروايات تحكي تطوره النفسي والروحي بين الكتب متعددة الجنسيات واللغات والأفكار ثم يورد مقطعاً خلاباً من كتاب" ديفيد فوستر والاس "
فيقول": "ان تعبد جسدك وجمالك وتوهجك الجنسي، فلسوف تشعر دائماً كم انت قميء، وعندما بمر الزمن والسنون بك وتنعكس على مظهرك، فلسوف تموت مليون ميتة، حتى قبل ان تموت وبحزن عليك الآخرون، كلنا واعون بتلك الأمور، على مستوى ما، فقد صارت تلك الحقيقة كشفرة داخل كل شيء، تماماً كالأسطورة، الامثال والحكم والكيشيهات، فهي العمود الفقري لأي قصة عظيمة، ربما يكمن السر في كيف تستبقي هذه الحقيقة لتكون في المقدمة وتعلي من شأنها اليومي، وإن عبدت القوة-فلسوف تشعر بالضعف والوهن والخوف، وستحاول ان تستعيض عن خوفك بممارسة القوة على الآخرين لتبقي على خوفك بعيدا عنك، وان عبدت فكرك لتجعل الآخرين يرونك كشخص ذكي-فلسوف ينتهي بك المطاف كغبي محتال، ولسوف تعيش على الحافة خوفاً من أن يكتشف أمرك".
تأخذ الصدامات الفكرية والثقافية بين ابناء بيت هاينريش بُل أيضاً حيزاُ من الكتاب هذا الاصطدام مبني على خلفية التناقضات التي عاشها الكتاب الأربعة في اوطانهم فجيرمان مثلاً رافض لخلفيته الشيشانية المصبوغة بالثقافة الإسلامية والمعتز بقوميته الروسية فهو ابن ثقافتين وهو ما يطلق عليه خالد كواطن"بيني" يلقي بثقله النفسي كله تجاه ثقافة محددة ليحسم هويته بينما لجريد معتز بقوميته متملل تحت وط ألجريد متملل من وضع موطنه تحت سيطرة الامبراطورية الروسية الكبرى المهيمنة ثقافيا وبتعداد سكانها البالغ تسعين مليونا بينما بيلا روسيا عشرة ملايين فقط.
يتناقش الكتاب الأربعة عن الجنس في الأدب بما يحمله فوق كاهله من موروث ثقافي واجتماعي, فبينما يتناول جيرمان الجنس بشاعرية مفرطة وبشكل غير مباشر يصف اللحظات السابقة واللاحقة على الجنس, احدى قصصه تصف لقاء بين فتى وفتاة أنهاها بقصيدة لبوشكين, جيرمان يرى نفسه سليل  ادب محافظ مؤرق بمشكلات اجتماعية وروحية وفلسفية . لا يجد غضاضة ان يوصف بأنه شرقي في كتابته بينما يتحدث زوفنكو بشكل صريح في ثلاثيته الروائية, زوجته تخشى ان يقرا والدها الرواية فينزعج ويتغير رأيه في زوج  ابنته, أما بناته فيقران ولا يعقبن. زوفنكوأيضاً سليل نفس تلك الثقافة التي اورثها الحكم الشمولي في الاتحاد السوفيتي وايضاً في يوغوسلافيا سابقاً.
الأشباح في كتاب خالدلا يقصد بها الكينونة الشبحية بدلالتها الثقافية كشئ مقبض ومخيف, لكنها ترمز للروح بمعناها النوراني , وكطيف  خفيف دال على العابرين  بالمكان والزمان.الأشباح تعبر وتقيم في بيت بُل هي الأشباح المليء بها الأدب الروسي.جيرمان يخبر علاء خالد بإحساسه بهذا الوجود الشبحي يقول خالد سائلًا جيرمان:" هل تشعر بروح هاينريش  بل في البيت.استغرب من سؤالي كانه شيء لا يريد أن يخوض فيه,ثم قال لي بوجه مهموم كانه يفضح عن سر تعفن داخله:أنا اتكلم معه كل يوم لم استغرب من كناية جيرمان التي تصل لحد الحقيقة لسابق علاقته الوثيقة بالأشباح التي امتلا بها الأدب الروسي منذ ديستوفسكي وأبطاله الممسوسين".
هذا الوجود الشبحي في بيت هاينريش بُل لا يشعر به علاء خالد وحده بل يكون محل نقاش جاد بينه وبين الكاتب الروسي جيرمان, يسأله خالد هل تشعر بالأشباح هي هي أشباح الماضي؟ أو أشباح الأفكار؟ يجيب جيرمان بل أشباح الحاضر!
"تعمدت كل صباح ان ازيح ستائر هذه الغرفة لتتسلل أشعة الشمس وتحمل على خيوطها الحارة إلى ظهري, حيث أجلس في غرفة المكتب نظرات ألجريد وتساؤلاته عن هذا الكائن القادم من مصر الذي يعتقد انها جزء من العالم الروحي الذي يجب أن يعيش ويقترب منه, ربما يملك إجابة على شقائه الروحي لم أصرح لجيرمان بملاحظاتي الخاصة حتى لا تتعمق فكرته, بل سرت مع فكرته لقد دخل صديق جديد لوحدتي, وإن كان من العالم الآخر تخيلتها اشباحاً ألمانية هي الأخرى تتعرف على هذا الصديق القادم من الشرق الذي لم تألف عاداته بعد"
"عندما تحدثت مع جيرمان حول هذه المطارادات  التي تقوم بها الأفكار في وحدتي كنت أستعيد روح حديث قديم لصديق, حول فكرة الأدب التي يلخصها احد الكتاب:ان وظيفة الأدب هي مطاردة الأشباح التي يحملها كل منا بداخله,الأشباح بالمعنى الحقيقي والمجازي ,لم اعرف انني ألمس وترا ً في الأدب الروسي  الروحي. الذي يحاول الخلاص لهذه الروح ليس فقط عن طريق السمو بل الإنصات ايضاً للأشباح ايضاً التي تقف في طريقها, الأدب الروسي ممسوس بروح شبحية , بشبح كالقرين وعلى وشك تجاوزها إلى ماهو أبعد من ذلك.."
"أصبحت لي ذاكرة كلبية تتشمم رداء الأروح في كل ما مر بي من صور واحاديث وتذكرت عندما كانت زوجتي تتحدث معي في الإسكايب كانت العدسة التي تراني  تكشف تلك المساحة  التي تظهر ورائي. عندما انظر لعينيها, كنت الحظ سر سرحانها أمام عدسة الإسكايب ويبدو انها هي الأخرى قد آثرت ان لا تزعجني بأمر  هذه الكائنات اللامرئية. فليس هناك مكان محدد يمكن ان تذهب إليه لتزورها, ربما في تلافيف الذاكرة والعقل البشريين".
يرحل زوفنكو ويحل محله كاتب اخر من الصين "يي كاي" الذي يسكن البيت ممثلاُ لثقافة بلد عريق بكل تاريخه القديم والحديث وتقاليده وصراعاته السياسية وموروثه الثقافي, وتعداد سكان يتجاوز المليار نسمة, ألجريد ايضا على وشك الرحيل,  سكان قدامي يستقبلون جدد والجدد يودعون القدامى العائدين لبيوتهم وأوطانهم.
البيت وصاحبه يضجان بالحكايات  التي تحدث يوما بعد يوما, سكانا إثر سكان.
يقول خالد:" بالإضافة لحكاية صاحب البيت اديب نوبل هاينريش بل, وروحه التي اشعر بها تتجول ليلاً لترعى هذه الصحبة الأدبية وتطمئن عليها وربما تراجع اعمالها المكتوبة والمنثورة في اللاب توب أو في قصاصات صغيرة, او في اجندات وتستلهم منها في مرقدها الأخير, مادة خصبة لروايات جديدة. "
رحل الجريد تاركاً بعض الهدايا والطعام لصديقه علاء خالد, يرحل كل ضيف ليترك تذكارا بسيطا للساكن الأحدث تستمر الحياة في صيرورتها ..
تجربة اجتماع مجموعة من الكتاب من ثقافات مختلفة تشبه تجربة الكاتب الجورجي "لاشا بوجادزه" المولولود في تبليسي  عاصمة جورجيا, حيث اجتمع مع مائة كاتب من دول مختلفة  ليستقلوا بدعوة من وزاره الثقافة قطاراً يعبرون به اوروبا ويسمي"اكسبريس الأدب"  يتضمن كتاب بوجادزه علاقاته ببقية الكتاب صعوبات النشر في الوطن وخارجه مجموعة من علاقات الحب والغيرة والمنافسة والإحباط التي يمر بها الكاتب. وللمصادفة تبدا رحلة بوجادزه في اكسبريس الادب في الربيع قبل قصف الروس جورجيا في اغسطس, الكاتب دوما في التجربتين فار من الموت, من الحرب ,من الثورة, من الحب.. وان كانت تجربة اكسبريس الأدب يظهر ابطالها باسماء كودية فتجربة اشباح هاينريش بل  هي بأسماء الابطال الحقيقيين
يتعرض يتعرض لتجربة قاسية ومحنة صعبة يدخرها لنا في نهاية الكتاب , تكون خاتمة لرحلته في الأراضي الألمانية  نعرف عنها في فصل الكتاب الأخير..
 كتب أشباح هاينريش يل يحتوي ايضا يحتوي على مقالات علاء خالد المرسلة إلى صديقه ناصر مسئول النشر في  احدى الجرائد المصرية في شكل مقال رأي اسبوعي المقالات  داخل دفتي الكتاب؛  تتحدث عن الثورة والأمل والمشاهدات اليومية بعناوين شاعرية انيقة, ترصد تلك الفترة المشحونة  في تاريخ مصر.
أماني خليل
نشر بمجلة ابداع 2019