الخميس، مارس 08، 2018

قراءتي في رواية "حشيش سمك برتقال" بجريدة اخبار الأدب المصرية

حشيش سمك برتقال:أبطال بلا أسماء وجوع لا سبيل لإشباعه!
        ____________

ثلاثة أشخاص بلا أسماء يجوبون شوارع القاهرة بسيارة متهالكة، و بلا هدف سوي التنّزه، متجاوزين ميدان التحرير في وسط المدينة برمزيته، مارين علي باعة البرتقال ينهلون من حلاوته. هل هذا هو الحب؟ منتهي الحب؟ أم هذا لاشيء؟ إنه السؤال الذي تطرحه الكاتبة الشابة هدي عمران في روايتها الأولي »حشيش سمك برتقال« الصادرة عن دار الساقي هذا العام وبمنحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون «آفاق»، بإشراف من الكاتب جبور الدويهي .
الرواية من ثلاثة فصول وتدور أحداثها عن بطلة مجهولة، امرأة بلا اسم ولا ماضٍ، فماضيها نسيته تماماً، تبحث عن سكن ووظيفة شأن ملايين القاهريين والقاهريات. تبحث عن أربعة جدران وغرفة ولقمة عيش، امرأة خائفة ووحيدة وجائعة. تحصل البطلة المجهولة علي غرفة في بيت امرأة أخري تطلق عليها عمران المرأة الإوزة.هي أيضًا بلا اسم. وكذلك كل أبطال الرواية مجهولون بلا أسماء أو بأسماء كودية، أبطال مهمشون تجمعهم المدينة الشرسة، وينامون بين فكيّها كل ليلة، المكان شارع ضيق حيث تستأجر البطلة غرفة في الطابق السادس عند امرأة غريبة، تكتب مذكراتها المقتضبة بين الحين والآخر.تحصل البطلة علي غرفة بسريرين متقاطعين، تنمو بين الاثنين علاقة خافتة حذرة أقرب للترقب. البيت في شارع قريب من ميدان التحرير. وفي أحد الشوارع الموازية يوجد سوق لمختلف أنواع الأسماك، السوق فيه محل للأنتيكات والتحف حيث رائحة السمك تعبق الجو، يصدح من داخل الدكان فونوغراف بأغاني أسمهان وإديث بياف اللتين تغنيان للحب،  البطلة المجهولة يذكرها السمك بالحب، تحب أكله وتحب الكلام مع الغرباء عن الحب. إنه الجوع في صورته البدائية، النهم للحب بشكله الحسي والروحاني، محاولة لكسر الوحدة والمشاركة مع الآخر. بشكل غير متعمد تري البطلة صاحبة البيت في أحضان صاحب دكان التحف. تشاهد مضاجعة آلية بين الاثنين، تطرح عليها الكثير من الأسئلة. تفتش البطلة المجهولة خلسة في مذكرات صاحبة البيت  لتكتشف أنها تتحدث عنها وعن صديقها الذي تسميه اسب .صاحبة البيت لا تأكل السمك،  تكتفي بالأرز فقط.  هي لا تعرف الحب أيضاُ، تعرف جنساً جافاً خاليا من الإشباع .
بخط أفقي وبلا أحداث متصاعدة مثل أفلام المخرج الأمريكي جيم جارموش رائد السينما الأمريكية المستقلة الذي عرف عنه الاهتمام بتفكيك خفايا الطبيعة الانسانية، حيث فشل التواصل هو ما تتفق عليه شخوصه، برغم اختلافها الظاهري وتنوع دوافعها تمضي رواية «عمران» لنهايتها.
> > >
كما يرمز السمك في الرواية للإشباع والحب، فالبرتقال يرمز للارتواء والسعادة ،تحرص البطلة المجهولة علي التهامه بنهم، رغم ضياعها بين البيت والسوق ومحل الأنتيكات وشوارع القاهرة فهي تعود للبيت عند نفاده. تتشارك المرأتان في فعل الأكل، تيمة الجوع برمزيتها تغطي مشاهد كثيرة. فعل الأكل مغرق في حسيته  خاصة عندما تتشارك المرأتان أكل «المسقعة»، وإن كانت البطلة أكثر إقبالاً علي الطعام وعلي الحياة، بينما صاحبة البيت تترك سمكها للتعفن والفساد.
تقول  البطلة التي تحوطها الوحدة في المدينة والبيت:«رقدت علي جنبي، فأصبحت الصورة داخل البرواز أمام عيني. يظهر منها في الظلام كتف المرأة الأصفر فقط.قلبت الصورة علي ظهرها، وأدرت برأسي المخدة أكثر وأغمضت عيني. كنت أشعر بالخزي الشديد، بالوحدة في البيت أكثر من أي وقت مضي. زاد علي إحساسي الوحدة التي تتسع وتبتلعني في هذا البيت.كأنني دخلت صورة فوتوغرافية في برواز أكبر من حجمي بكثير، كنت أقف في منتصفه، فأبدو مثل نقطة صغيرة في فراغ شاسع».
تدورعمران بين مشاهد رواياتها بكاميرا سينما، وبشاعرية فائقة لترصد  لقاء البطلة  بشبان غرباء يجمعهم العطش والسأم والوحدة، في أحد الشوارع  تدخل سينما لتتعرف علي مجموعة من الفتيات والفتيان لا رابط بينهم، تسميهم «شباب السينما» يتشاركون مشاهدة أحد الأفلام وأكل البرتقال الذي تحمله البطلة في كيس وهي تتجول في شوارع المدينة، ثم يدعون الفتاة للقدوم لبيتهم لمشاركتهم حفلاً.
تنتقل عمران إلي مشهد حالم وشاعري آخر، فالبطلة تطوف سوق السمك يمزقها الجوع. تسير وراء الرائحة فتدخل أحد البيوت لتصعد طابقه الثاني، تجد صبياً، سبق وباع لها سمكة، يقلي السمك في قدر كبير ويوزعه علي آلاف  من البشر، الجميع يبحث عن الإشباع، الجميع يبحث عن الحب. الجميع يتحلقون حول الأمل. تحصل البطلة علي رغيف مليء بالسمك الصغير تحصل دوما علي نصيب قليل من الحب والطعام كما نعرف في تطور السرد لاحقا.
> > >
تقول عمران يتحرك الشارع معي.  وأنا أتحرك معه  نحن صديقان حميمان، فألقي ذراعي فوق ذراعه ويلقي ذراعه فوق ذراعي.  أتأبطه ونسير، الكاميرا في جيبي،  والنقود في الجيب الآخر، وجوعي في بطني  يتحرك مثل دودة. فأصبح أنا والشارع ودودة الجوع أصدقاء.لاأستطيع أن آكل حتي لا أضيع أحد أفراد الرفقة ثم، ثم ماذا؟ آه.كنت أمشي بخطواتي الواثقة. أري العيون اللامعة المحدقة من بعيد وأضحك، الضحك صديق رابع. أحثه علي التعبير عن ذاته. فأضحك وأضحك. وأشير إلي الأجساد الملتفة حول منضدة وحيدة مشغولة أمام المقهي.
تبدأ صداقة بين البطلة وشبان السينما الذين، مثل باقي شخوص الحكاية، بلا أسماء تطلق عليهم أسماء في عقلها «مستر إكس، أبو شامة، البيضاء، السمراء» في هذه المرحلة لا نستطيع أن نتجاوز ببساطة إغفال الكاتبة لأسماء الشبان، بل تفعل ذلك بوعي متعمد، فلا حاجة لمعرفة أسماء من هم مجرد غرباء عابرين.
تتشارك البطلة سجائر الحشيش مع شبان السينما.حشيش تعيد به اكتشاف ذاتها مرة ثانية. يلف مستر إكس السيجارة ثم يمررونها علي بعض، تمارس البطلة مع «أبو شامة» جنساً أكثر روتينية وبروداً من ممارسة صاحبة البيت ورجل محل التحف في المشهد الأول، جنساً لا يحرك مشاعرها ولا جسدها، لا يثير إلا الضحك. ضحك الخيبة والاغتراب.
> > >
تتوتر علاقة البطلة برباعي شبان السينما بين الحب والخوف والكراهية، تخرج للشارع تجد مدينة القاهرة مصبوغة حمراء وحميمية وكابوسية.جدرانها ملطخة بالجرافيتي المقشر ومليئة بسلال العيون النازفة، ولا تخفي الدلالة هنا علي الثورة النازفة دماء وعيوناً وأملاً.
تخرج البطلة مع شبان السينما للمرة الأخيرة في نزهة. تجعلهم يقلونها للبيت،  تصف الرحلة بأن السعادة «أن تركب سيارة مع مجموعة من المجانين». تذهب لنقطة البداية. صاحبة البيت علي حالها لكن العودة  تجعلها تري علاقة مختلفة هي فيها الطرف الأقوي بين الاثنين، امرأة قادرة علي إذلال المرأة صاحبة البيت، وعلي غواية الرجل صاحب محل التحف واللعب بمشاعرهما. فهي  بعد تجربة علاقتها بشبان السينما أكثر ثقة وسعادة.
تستمر الأحداث وتستمر رحلة البطلة بين سيارة شبان السينما والسير في شوارع القاهرة المدينة القاسية ومشاركة الحشيش واقتسام الغربة.
الفصل الثالث تعود البطلة للبيت. من الممكن أن نطلق عليه «فصل التطهر»، تغتسل وترتمي في حجر صاحبة البيت مبتلة مصابة بما يشبه الحمي، يحاول جسدها أن يلفظ المخدر والجنس الرتيب والخوف والقلق.
تأتي خاتمة الرواية المفاجئة التي تدخرها لنا «عمران» حين ترتكب البطلة جريمة قتل. قتلت من؟ ولماذا؟ ولماذا تتواطأ إحدي الجارات علي حمايتها وتهريبها؟ هذا ما نعرفه في الصفحات الأخيرة . والتي تنطلق بعدها البطلة في رحلة بسيارة ستينية يقودها رجل دكان التحف وصاحبة المنزل في شوارع القاهرة موطن الحكي والخوف والجوع والبحث عن الحرية، ينطلق الثلاثة عابرين ميدان التحرير إلي أين؟ يسأل الرجل المرأتين، تجيب البطلة إلي كل شوارع القاهرة!
نشر في أخبار الأدب هنا    3_3_
2018